الجمعة، 20 مارس 2015

178 - " قصة " شهيد ...

178 - " قصة " شهيد ...


الشهيد الدكتور : نضال عبد العزيز حج علي

================

بقلم : أبو ياسر السوري

الشاب " نضال " ابن الـ (37) عاما ، هو من أبناء درعا ، المدينة التي انطلقت منها الثورة السورية ، مطالبة بإسقاط هتلر سوريا .. لم يكن مشاركا في الثورة ، لكونه طالبا في الدراسات العليا في قسم الهندسة المدنية .. ولهذا كان مقيما في مخيم اليرموك ، ليكون قريبا من الدكتور الذي يشرف على رسالته الدكتوراه ، ليمضي في مسيرته العلمية على هدي من إرشاداته ، ولينسق معه خطوة .. خطوة ..
مرت ثلاثة أعوام من عمر الثورة ، ونضال منهمك في عالمه ، يلملم معلوماته ، ويسهر على تنسيقها وترتيبها ووضع اللمسات الأخيرة عليها .. ثم حُدّد له موعدُ المناقشة .. وناقش .. وقرَّرت اللجنة منحه درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى .. وحدَّدت الكلية موعدا لتسليم الشهادات إلى الخريجين بعد شهر من تاريخ المناقشة ، وأعلنت عن إقامة حفل يحضره أساتذة الجامعة ووزير التعليم العالي ووجهاء القوم .. ومرَّ الشهر مرورا بطيئا على نضال ، ولم يبق على الموعد المنتظر لحفل تخرجه سوى بضع ساعات ..
::::::::
كان نضال في غرفته .. وزوجته تحضر طعام الغداء في المطبخ .. وبينما هو كذلك ، مر في مخيلته شريط الماضي ، فتذكر ذهابه وإيابه من الجامعة وإليها ، ومن المكتبة الظاهرية وإليها ، ومن مكتب المشرف وإليه .. وتذكر الليالي التي طال سهره فيها .. وهموم الحياة التي لا تفارق رب أسرة فقير ممن على شاكلته  ..
ثم انتقل بتفكيره باتجاه المستقبل ، وراح يتخيل نفسه وهو على مدرج الجامعة ، يحاضر أمام طلابه ، الذين يرمقونه باحترام وإعجاب .. أو يتخيل نفسه وقد ابتُعِثَ إلى أوربا ، فسكن في " فيلَّا " أشبه بالقصر .. وتخيَّل سيارته واقفة داخل سورها بالكراج .. وفي حديقتها الزهورُ من شتى الألوان ... وفي وسط الحديقة نافورة تقذف الماء عاليا في الهواء ، تتساقط منها قطرات الماء ، محدثة صوتا أشبه بصوت المطر ...
وبينما هو غارق في بحر أحلامه الوردية ، إذ به يدخل في حالة من الفرح العارم ، وإذ به لا يتمالك نفسه لشدة الفرح ، فبدأ يقفز في الهواء ، ويتمعَّكُ فوق السرير .. وفجأةً وقعت عينه على كرة لابنه الصغير فركلها ركلة قوية فارتطمت بالجدار ، محدثة دويا صاخبا ..  وأخذ لعبة لابنته الصغيرة فجعل يرميها عاليا في الهواء ، ثم يتلقفها بكلتا يديه ، كما لو كان يداعب طفلة حقيقية .. وهو يصرخ : هُب .. هُب .. هُب ..
أسرعتْ نوالُ إلى مصدر الصوت ، لتبصر مَنْ هذا الذي يصنع كل هذا الضجيج .؟  فرأت زوجها وهو يقوم بهذه الحركات .. فوقفت مشدوهة لما رأت .!! لقد رأت زوجها الوقور ، وكأنه عاد إلى شقاوة الطفولة وطيشها من جديد .
نوال : خير .. خير .. ما بك يا نضال .؟ اسم الله عليك .. صار لعقلك شيء يا حبيبي .؟
نضال : حتى الآن أنا ما زلت بخير .. ولكن أراني قريبا من الجنون .. هل يجن المرء من الفرح يا نوال .؟ أكاد أُجَنُّ من الفرح .!!
نوال : هاتِ ما عندك .. وفرِّحنا معك .. إيش الحكاية .؟ لقد فرحتُ لفرحك . ولكن فضولي يُلِحُّ عليَّ لأعرف السبب .؟ فقل ولا تعذبني بالانتظار أكثر .؟؟
نضال : أرأيتِ لو أنَّ أحدا مات أبوه تاركا له كنزا من الذهب ، ولكنه مدفون تحت إحدى الأشجار في أرض بستانه ، ومات هذا الأب فجأة قبل أن يخبر ولده عن مكان الكنز .. فعاش الولد عيش المساكين ، لا يجد اللقمة إلا بشق النفس .. ولا يلبس إلا الخشن من الثياب ... وعبثا حاول أن يحرث البستان طولا وعرضا ليجد الكنز الدفين ، ويودع حياة الفقر والمسغبة ، ولكنه لم يهتد إليه سبيلا .. واستمر على ذلك سنوات وسنوات .. وبينما هو في هذا الضنك الشديد ، إذ به يجد الكنز .. وإذ به كنز من الذهب الخالص .. وإذ به مقدار فوق التصور .. هل يُلامُ هذا الفقير الذي هبط عليه الغنى مرة واحدة ، لو فارقه وقارُهُ .. وأشرف على الجنون .؟؟؟
نوال : لا .. لا يُلام ..
نضال : فأنا هو ذلك الفقير الذي هبطت عليه الثروة والمجد بعد طول انتظار ..
لقد حصلتُ أخيراً على الدكتوراه يا نوال .. وكأني أرى الغنى والعز يهبط علينا وعلى أبنائنا دفعة واحدة ..
نوال : الحمد لله يا حبيبي .. اللهم اجعل ذلك خيرا .. هيا بنا إلى تناول طعام الغداء ، فعليَّ عملٌ كثير يجب أن أتمه قبل انطلاقنا إلى حفل التخرُّج . والله أنا مثلك أكاد أطير من الفرح يا حبيبي .
::::::::
اقترب موعدُ الحفل .. فخرجوا في زينتهم .. واستقلوا السيارة ، وتوجهوا إلى مكان الحفل .. وبينما هم في الطريق ، مروا بحاجز " المسمية " فأوقفوا السيارة ، وأمروهم بالترجل ، ثم أخذوا منه مفاتيح السيارة ، وبدأوا معه حفلة من الركل بالأرجل ، والصفع بالأيدي . والشتائم السافلة التي يتقنها عناصر هذه الحواجز .. كل هذا يحدث لرجل فاضل ، يذهب لاستلام مؤهله العالي .. والمؤلمُ أنْ يَحدُثَ له ذلك أمام زوجته وأبنائه ، الذين كانوا يرتجفون خوفا وذعرا ..   
::::::
كان ذلك بتاريخ 2 / تموز /  2013م ، حيث أخذ نضالُ محمولاً في "باكاج" سيارته ، التي اغتصبها منه رجال المخابرات عند ذلك الحاجز المشؤوم ، وتركوا عائلته بحالة من الخوف والذهول على قارعة الطريق .. ثم انقطعت أخباره عن أهله وذويه بعد تلك اللحظة التعيسة ..
وأخيرا ، وبعد مرور عام ونصف العام ، ظهرت صورةُ نضالٍ منشورة على موقع لضابط منشق ، كان نشر فيه 3000 صورة من صور الشهداء الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب .. فكان نضال واحدا منهم ...
فكم شهيد قضى على هذا النحو من أحرار سوريا .؟؟ وكم يجب أن يمر من الزمن لننسى أمثال هذه المآسي ، التي حفرت في الذاكرة حفرا لتستعصي على النسيان .؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق